فصل: لَوْث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


لَوْث

التّعريف

1 - اللَّوْث بفتح اللام وسكون الواو في اللغة‏:‏ القوّة والشّر‏,‏ واللّوث‏:‏ الضّعف‏.‏

واللّوث‏:‏ شبه الدّلالة على حدثٍ من الأحداث‏,‏ ولا يكون بيّنةً تامّةً يقال‏:‏ لم يقم على اتّهام فلانٍ بالجناية إلا لوث‏.‏

واللّوث‏:‏ الجراحات والمطالبات بالأحقاد‏,‏ وهو في الاصطلاح‏:‏ أمر ينشأ عنه غلبة الظّنّ بصدق المدّعي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التهمة‏:‏

2 - التهمة في اللغة بسكون الهاء وفتحها‏:‏ الشّك والرّيبة وهي في الأصل من الوهم‏.‏ والتهمة هي الخصلة من المكروه تظن بالإنسان أو تقال فيه‏,‏ يقال‏:‏ وقعت على فلانٍ تهمة‏:‏ إذا ذكر بخصلة مكروهةٍ‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ اللّوث من شروط القسامة والأصل فيه حديث سهل بن أبي حثمة الأنصاريّ رضي الله عنه في قصّة قتل يهود خيبر عبد اللّه بن سهلٍ رضي الله عنه‏,‏ فقد روى عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن سهل بن أبي حثمة عن سهل بن أبي حثمة‏:‏ «أنّه أخبره عن رجالٍ من كبراء قومه أنّ عبد اللّه بن سهلٍ ومحيّصة خرجا إلى خيبر من جهدٍ أصابهم‏,‏ فأتى محيّصة فأخبر أنّ عبد اللّه بن سهلٍ قد قتل وطرح في عينٍ أو فقيرٍ‏,‏ فأتى يهود فقال‏:‏ أنتم واللّه قتلتموه‏,‏ قالوا‏:‏ واللّه ما قتلناه‏,‏ ثمّ أقبل حتّى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ثمّ أقبل هو وأخوه حُويّصة وهو أكبر منه وعبد الرّحمن بن سهلٍ‏,‏ فذهب محيّصة ليتكلّم وهو الّذي كان بخيبر‏,‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمحيّصة‏:‏ كبّر كبّر - يريد السّنّ - فتكلّم حويّصة ثمّ تكلّم محيّصة فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إمّا أن يدوا صاحبكم وإمّا أن يؤذنوا بحرب ، فكتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك ، فكتبوا‏:‏ إنّا واللّه ما قتلناه ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة وعبد الرّحمن‏:‏ أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ‏؟‏ قالوا‏:‏ لا ، قال‏:‏ فتحلف لكم يهود ‏؟‏ قالوا‏:‏ ليسوا بمسلمين ، فوداه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من عنده ، فبعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مائة ناقةٍ حتّى أدخلت عليهم الدّار ، فقال سهل‏:‏ فلقد ركضتني منها ناقة حمراء»‏.‏

4 - ولكنّ اللّوث له صور اختلف الفقهاء في بعضها‏:‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ اللّوث قرينة تثير الظّنّ وتوقع في القلب صدق المدّعي وله طرق منها‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يوجد قتيل أو بعضه الّذي يحقّق موته كرأسه في قبيلةٍ أو في حصنٍ‏,‏ أو في قريةٍ صغيرةٍ‏,‏ أو في محلّةٍ منفصلةٍ عن البلد الكبير وبين القتيل أو قبيلة القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة تبعث على الانتقام بالقتل‏,‏ سواء كانت هذه العداوة دينيّةً أو دنيويّةً‏,‏ بشرط أن لا يعرف له قاتل ولا بيّنة بقتله‏,‏ وبشرط أن لا يساكنهم غيرهم‏,‏ وقيل‏:‏ وبشرط أن لا يخالطهم غيرهم حتّى لو كانت القرية بقارعة الطّريق يطرقها التجّار والمجتازون وغيرهم فلا لوث‏,‏ لاحتمال أنّ الغير قتله‏,‏ وذلك إذا كان ذلك الغير لا تعلم صداقته للقتيل‏,‏ وليس من أهل القتيل‏.‏

قال النّووي‏:‏ والصّحيح أنّه لا يشترط أن لا يخالطهم غيرهم‏,‏ وقال الشّربيني الخطيب‏:‏ لكن المصنّف - أي النّووي - في شرح مسلمٍ حكى الأوّل - أي اشتراط أن لا يخالطهم غيرهم - عن الشّافعيّ وصوّبه في المهمّات‏,‏ وقال البلقيني‏:‏ إنّه المذهب المعتمد‏.‏

الثّاني‏:‏ أن تتفرّق جماعة عن قتيلٍ في دارٍ دخلها عليهم ضيفاً أو دخل معهم لحاجة أو في مسجدٍ أو بستانٍ أو طريقٍ أو صحراء‏,‏ وكذا لو ازدحم قوم على بئرٍ‏,‏ أو باب الكعبة المشرّفة‏,‏ أو في الطّواف أو في مضيقٍ ثمّ تفرّقوا عن قتيلٍ‏,‏ لقوّة الظّنّ أنّهم قتلوه ولا يشترط في هذا أن تكون بينه وبينهم عداوة‏,‏ لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصوّر اجتماعهم على القتيل‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يتقابل صفّان لقتال فيقتتلا فينكشفوا عن قتيلٍ من أحدهما طريٍّ - كما قال بعض المتأخّرين - فإن التحم قتال من بعضهم لبعض أو وصل سلاح أحدهما إلى الآخر رمياً أو طعناً أو ضرباً‏,‏ وكان كل منهما يلزمه ضمان ما أتلفه على الآخر‏,‏ فهو لوث في حقّ أهل الصّفّ الآخر‏,‏ لأنّ الظّاهر أنّ أهل صفّه لا يقتلونه سواء أوجد بين الصّفّين أم في صفّ نفسه‏,‏ أم في صفّ خصمه‏,‏ وإن لم يلتحم قتال بينهما ولا وصل سلاح أحدهما إلى الآخر فهو لوث في حقّ أهل صفّه أي القتيل‏,‏ لأنّ الظّاهر أنّهم قتلوه‏.‏

الرّابع‏:‏ أن يوجد قتيل في صحراء وعنده رجل معه سلاح متلطّخ بدم أو على ثوبه أو بدنه أثر دمٍ‏,‏ ما لم تكن قرينة تعارضه كأن وجد بقرب القتيل سبع أو رجل آخر مولٍّ ظهره أو وجد أثر قدمٍ أو ترشيش دمٍ في غير الجهة الّتي فيها صاحب السّلاح فليس بلوث في حقّه‏,‏ أي صاحب السّلاح‏.‏

قال النّووي‏:‏ ولو رأينا من بعدٍ رجلاً يحرّك يده كما يفعل من يضرب بسيف أو سكّينٍ ثمّ وجدنا في الموضع قتيلاً فهو لوث في حقّ ذلك الرّجل‏.‏

الخامس‏:‏ أن يشهد عدل بأنّ زيداً قتل فلاناً فهو لوث على المذهب‏,‏ سواء تقدّمت شهادته على الدّعوى أو تأخّرت لحصول الظّنّ بصدقه‏.‏

قال الشّربيني الخطيب‏:‏ إنّما تكون شهادة العدل لوثاً في القتل العمد الموجب للقصاص فإن كان في خطأٍ أو شبه عمدٍ لم يكن لوثاً‏,‏ بل يحلف معه يميناً واحدةً ويستحق المال‏,‏ كما صرّح به الماورديّ‏,‏ وإن كان عمداً لا يوجب قصاصاً كقتل المسلم الذّمّيّ فحكمه حكم قتل الخطأ في أصل المال لا في صفته‏.‏

ولو شهد جماعة تقبل روايتهم كنساء فإن جاءوا متفرّقين فلوث وكذا لو جاءوا دفعةً على الأصحّ‏,‏ وفي وجهٍ ليس بلوث وفي التّهذيب‏:‏ أنّ شهادة امرأتين كشهادة الجمع‏.‏

وفي الوجيز‏:‏ أنّ القياس أنّ قول واحدٍ منهم لوث‏.‏

وأمّا فيمن لا تقبل روايتهم كصبيان أو فسقةٍ أو ذمّيّين فأوجه أصحها‏:‏ أنّ قولهم لوث‏.‏ والثّاني‏:‏ ليس بلوث‏,‏ والثّالث‏:‏ لوث من غير الكفّار‏.‏

ولو قال المجروح‏:‏ جرحني فلان أو قتلني أو دمي عنده فليس بلوث‏,‏ لأنّه مدّعٍ‏.‏

السّادس‏:‏ قال البغوي‏:‏ لو وقع في ألسنة العامّ والخاصّ ولهجهم‏:‏ أنّ فلاناً قتل فلاناً فهو لوث في حقّه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا وجد القتيل في محلّةٍ وبه أثر القتل من جراحةٍ أو أثر ضربٍ أو خنقٍ ولا يعلم من قتله استحلف خمسون رجلاً من أهل المحلّة يتخيّرهم الولي يقول كل واحدٍ منهم‏:‏ باللّه ما قتلته ولا علمت له قاتلاً ولا يشترطون لوجوب القسامة أن يكون هناك علامة القتل على واحدٍ بعينه‏,‏ أو ظاهر يشهد لمدّعي القتل من عداوةٍ ظاهرةٍ أو شهادة عدلٍ أو جماعةٍ غير عدولٍ أنّ أهل المحلّة قتلوه‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ سبب القسامة هو قتل الحرّ المسلم بلوث‏,‏ وذكروا خمسة أمثلةٍ للّوث‏:‏ أوّلها‏:‏ أن يقول البالغ الحر المسلم الذّكر أو الأنثى‏:‏ قتلني فلان عمداً أو خطأً فإنّه يقبل قوله في العمد والخطأ‏,‏ ولو كان المقتول مسخوطاً وادّعى على عدلٍ ولو أعدل وأورع أهل زمانه أنّه قتله‏.‏

أو تدّعي زوجة على زوجها أنّه قتلها أو ولد يدّعي أنّ أباه ذبحه أو شقّ جوفه فيحلف الأولياء في العمد ويستحقون القصاص‏,‏ وفي الخطأ يستحقون الدّية ويكون لوثاً بشرط أن يشهد على إقراره بذلك عدلان فأكثر‏,‏ وبشرط أن يستمرّ المقتول على إقراره‏,‏ وكان به جرح أو أثر ضربٍ أو سمٍّ‏.‏

ثانيها‏:‏ شهادة عدلين على معاينة الضّرب أو الجرح أو أثر الضّرب عمداً كان أو خطأً فيحلف الأولياء ويستحقون القصاص أو الدّية‏.‏

ثالثها‏:‏ شهادة عدلٍ واحدٍ على معاينة الجرح أو الضّرب عمداً كان أو خطأً‏,‏ وحلف الولاة مع الشّاهد المذكور يميناً واحدةً لقد ضربه وهذه اليمين مكمّلة للنّصاب فإنّ ذلك يكون لوثاً وتقسم الولاة معه خمسين يميناً ويستحقون القود في العمد والدّية في الخطأ إن ثبت الموت في جميع الأمثلة السّابقة‏.‏

رابعها‏:‏ شهادة عدلٍ على معاينة القتل من غير إقرار المقتول فإنّها تكون لوثاً وشهادة غير العدل لا تكون لوثاً‏,‏ والمرأتان كالعدل في هذا وفي سائر ما تعتبر فيه شهادة الشّاهد فيه لوثاً‏.‏

خامسها‏:‏ إنّ العدل إذا رأى المقتول يتشحّط في دمه والشّخص المتّهم بالقتل قريب من مكان المقتول وعلى المتّهم آثار القتل بأن كانت الآلة بيده وهي ملطّخة بالدّم أو خارجاً من مكان المقتول ولا يوجد فيه غيره‏,‏ وشهد العدل بذلك فإنّه يكون لوثاً يحلف الأولياء معه خمسين يميناً ويستحقون القود في العمد والدّية في الخطأ‏.‏

وليس من اللّوث وجود المقتول بقريّة قومٍ أو دارهم‏,‏ لأنّه لو أخذ بذلك لم يشأ رجل أن يلطّخ قوماً بذلك إلا فعل‏,‏ ولأنّ الغالب أنّ من قتله لا يدعه في مكانٍ يتّهم هو به‏.‏

واختلف الحنابلة في اللّوث المشترط في القسامة ورويت عن أحمد في ذلك روايات‏.‏ والرّواية المعتمدة - وهي المذهب عندهم - أنّ اللّوث هو العداوة الظّاهرة كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر‏,‏ وكما بين القبائل الّتي يطلب بعضها بعضاً بثأر‏,‏ وما بين الشّرط واللصوص‏,‏ وكلّ من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظّنّ قتله‏.‏

وروي عن أحمد أنّ اللّوث ما يغلب على الظّنّ صدق المدّعي وذلك من وجوهٍ‏:‏

أحدها‏:‏ العداوة المذكورة‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يتفرّق جماعة عن قتيلٍ‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكّين ملطّخ بالدّم‏,‏ ولا يوجد غيره ممّن يغلب على الظّنّ أنّه قتله‏.‏

الرّابع‏:‏ أن يقتتل فئتان فيفترقون عن قتيلٍ من إحداهما فاللّوث على الأخرى‏.‏

الخامس‏:‏ أن يشهد جماعة بالقتل ممّن لا يثبت القتل بشهادتهم‏.‏

واختار هذه الرّواية عن أحمد أبو محمّدٍ الجوزي وابن رزينٍ وتقي الدّين وغيرهم‏.‏

قال المرداوي‏:‏ وهو الصّواب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يشترط مع العداوة الظّاهرة أن لا يكون في الموضع الّذي به القتل غير العدوّ‏,‏ ولا أن يكون بالقتيل أثر القتل كدم في أذنه أو أنفه‏,‏ وقول القتيل‏:‏ قتلني فلان ليس بلوث عندهم‏.‏

مسقطات اللّوث

5 - قال المالكيّة‏:‏ إذا قال البالغ المسلم الحر الذّكر أو الأنثى‏:‏ قتلني فلان ثمّ قال بل فلان بطل الدّم‏,‏ وكذلك إذا قال هذا البالغ المسلم الحر‏:‏ قتلني فلان لا يقبل إلا إذا كان فيه جرج أو أثر الضّرب‏.‏

وأيضاً فإنّ أولياء المقتول إذا خالفوا قوله‏,‏ بأن قال‏:‏ قتلني فلان عمداً فقالوا‏:‏ بل قتله خطأً أو بالعكس فإنّه لا قسامة لهم وبطل حقهم‏.‏

ولو اختلف الأولياء‏,‏ فقال بعضهم‏:‏ قتله عمداً‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ لا نعلم هل قتله عمداً أو خطأً‏,‏ أو قالوا كلهم‏:‏ قتله عمداً ونكلوا عن القسامة فإنّ الدّم يبطل وهو مذهب المدوّنة‏,‏ وإن اختلفوا ولم يكونوا في درجةٍ واحدةٍ كبنت وعصبةٍ‏,‏ بأن ادّعى العصبة العمد والبنت الخطأ فهو هدر ولا قسامة ولا قود ولا دية‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ قد يعارض القرينة ما يمنع كونها لوثاً‏,‏ وقد يعارض اللّوث ما يسقط أثره ويبطل الظّنّ الحاصل به‏,‏ وذلك خمسة أنواعٍ‏.‏

أحدها‏:‏ أن يتعذّر إثبات اللّوث فإذا ظهر لوث في حقّ جماعةٍ فللوليّ أن يعيّن واحداً أو أكثر ويدّعي عليه ويقسم‏,‏ فلو قال‏:‏ القاتل أحدهم ولا أعرفه فلا قسامة‏,‏ وله تحليفهم فإن حلفوا إلا واحداً فنكوله يشعر بأنّه القاتل ويكون لوثاً في حقّه‏,‏ فإذا طلب المدّعي أن يقسم عليه مكّن منه‏,‏ ولو نكل الجميع ثمّ عيّن الولي أحدهم وقال‏:‏ قد بان لي أنّه القاتل‏,‏ وأراد أن يقسم عليه مكّن منه على الأصحّ‏.‏

الثّاني‏:‏ قال النّووي‏:‏ إذا ظهر لوث في أصل القتل دون كونه خطأً أو عمداً فهل يتمكّن الولي من القسامة على أصل القتل ‏؟‏ وجهان أصحهما‏:‏ لا‏.‏

قال البغوي‏:‏ لو ادّعى على رجلٍ أنّه قتل أباه ولم يقل عمداً ولا خطأً وشهد له شاهد لم يكن ذلك لوثاً‏,‏ لأنّه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده‏,‏ ولو حلف لا يمكن الحكم به لأنّه لا يعلم صفة القتل حتّى يستوفي موجبه‏.‏

الثّالث‏:‏ أن ينكر المدّعى عليه اللّوث في حقّه كأن يقول‏:‏ لم أكن مع القوم المتفرّقين عن القتيل‏,‏ أو لست أنا الّذي رئي معه السّكّين المتلطّخ بالدّم على رأسه‏,‏ أو لست أنا المرئيّ من بعيدٍ‏,‏ فعلى المدّعي البيّنة على الأمارة الّتي ادّعاها‏,‏ فإن لم يكن بيّنة حلف المدّعى عليه على نفيها وسقط اللّوث وبقي مجرّد الدّعوى‏.‏

ولو قال‏:‏ كنت غائباً يوم القتل أو ادّعى على جمعٍ‏,‏ فقال أحدهم‏:‏ كنت غائباً يصدّق بيمينه‏,‏ لأنّ الأصل براءة ذمّته من القتل‏,‏ فإن أقام المدّعي البيّنة على حضوره يومئذٍ أو إقراره بالحضور يومئذٍ‏,‏ وأقام المدّعى عليه بيّنةً بغيبته‏,‏ قال النّووي‏:‏ ففي الوسيط تتساقطان وفي التّهذيب تقدّم بيّنة الغيبة‏,‏ لأنّ معها زيادة علمٍ‏,‏ هذا إذا اتّفقا على أنّه كان حاضراً من قبل‏,‏ ولو أقسم المدّعي وحكم القاضي بموجب القسامة‏,‏ ثمّ أقام المدّعى عليه بيّنةً على غيبته يوم القتل أو أقرّ بها المدّعي نقض الحكم واستردّ المال‏,‏ كما لو قامت بيّنة على أنّ القاتل غيره‏.‏

الرّابع‏:‏ تكذيب بعض الورثة بعضهم‏,‏ فإذا كان للميّت ابنان فقال أحدهما‏:‏ قتل زيد أبانا وقد ظهر عليه اللّوث‏,‏ وقال الآخر‏:‏ لم يقتله زيد بل كان غائباً يوم القتل وإنّما قتله فلان‏,‏ أو اقتصر على نفي القتل عن زيدٍ‏,‏ أو قال‏:‏ برأ أبي من الجراحة أو مات حتف أنفه بطل اللّوث‏,‏ في الأظهر عند الشّافعيّة‏,‏ سواء أكان المكذّب عدلاً أم فاسقاً في الأصحّ المنصوص عليه عندهم‏.‏

الخامس‏:‏ أن يشهد عدل أو عدلان أنّ زيداً قتل أحد هذين القتيلين فلا تقبل هذه الشّهادة ولا يكون هذا لوثاً‏,‏ ولو شهد أو شهدا أنّ زيداً قتله أحد هذين ثبت اللّوث في حقّهما على الصّحيح‏,‏ فإذا عيّن الولي أحدهما وادّعى عليه فله أن يقسم‏,‏ وقيل‏:‏ لا لوث‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كذّب بعض الأولياء بعضاً فقال أحدهم‏:‏ قتله هذا وقال آخر‏:‏ لم يقتله هذا‏,‏ أو بل قتله هذا لم تثبت القسامة‏,‏ عدلاً كان المكذّب أو فاسقاً لعدم التّعيين‏,‏ فإن لم يكذّب أحدهما الآخر ولم يوافقه في الدّعوى‏,‏ مثل‏:‏ إن قال أحدهم‏:‏ قتله هذا‏,‏ وقال الآخر‏:‏ لا نعلم قاتله لم تثبت القسامة أيضاً‏,‏ وكذلك إن كان أحد الوليّين غائباً فادّعى الحاضر دون الغائب‏,‏ أو ادّعيا جميعاً على واحدٍ ونكل أحدهما عن الأيمان لم يثبت القتل‏.‏ وإن أقام المدّعى عليه بيّنةً أنّه كان يوم القتل في بلدٍ بعيدٍ من بلد المقتول لا يمكنه مجيئه إليه بطلت الدّعوى‏.‏

لَوْم

انظر‏:‏ تعزير‏.‏

لَون

التّعريف

1 - اللّون في اللغة‏:‏ هيئة كالسّواد والحمرة‏,‏ ولوّنته فتلوّن‏,‏ والألوان‏:‏ الضروب‏,‏ واللّون‏:‏ النّوع‏,‏ وفلان متلوّن‏:‏ إذا كان لا يثبت على خلقٍ واحدٍ‏.‏

وفي الاصطلاح يستعمل الفقهاء اللّون صفةً للشّيء فيقولون‏:‏ يشترط في المسلم فيه بيان صفاته فيشترط بيان اللّون في الحيوان والثّياب كالبياض والحمرة والسّواد‏.‏

الأحكام الّتي تتعلّق باللّون

يتعلّق باللّون أحكام متعدّدة منها‏:‏

أثر تغير لون الماء في الطّهارة

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الماء إذا تغيّر لونه بنجس كدم فإنّه يصير نجساً‏,‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيّرت للماء لوناً أو طعماً أو رائحةً أنّه نجس ما دام كذلك‏,‏ وقد روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الماء لا ينجّسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه»‏.‏

أمّا إذا تغيّر لون الماء بسبب اختلاطه بشيء طاهرٍ‏,‏ فإن كان الطّاهر الّذي خالط الماء فتغيّر به ممّا يمكن الاحتراز منه بأن كان يفارق الماء غالباً كزعفران وتمرٍ ودقيقٍ وصابونٍ ولبنٍ وعسلٍ وغير ذلك ممّا يمكن الاحتراز منه فلا تجوز الطّهارة به من وضوءٍ وغسلٍ‏,‏ أي أنّه لا يستعمل في العبادات‏,‏ وإنّما لا يجوز استعماله في العبادات لأنّه ماء تغيّر بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز منه فلم يجز الوضوء به كماء الباقلاء المغليّ‏,‏ ولأنّه زال عن إطلاقه فأشبه المغليّ‏.‏

وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن الإمام أحمد‏,‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ هذه الرّواية عن أحمد هي الأصح‏.‏

والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه يجوز الطّهارة بالماء الّذي اختلط بطاهر ممّا يمكن الاحتراز منه‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ لأنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ‏}‏‏,‏ وهذا عام في كلّ ماءٍ فلا يجوز التّيمم مع وجوده‏,‏ وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه‏:‏ «إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين»‏,‏ وهذا واجد للماء‏,‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم‏,‏ والغالب أنّها تغيّر الماء فلم ينقل عنهم تيمم مع وجود شيءٍ من تلك المياه‏,‏ ولأنّه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ الماء المطلق إذا خالطه شيء من المائعات الطّاهرة كاللّبن والخلّ ونقيع الزّبيب ونحو ذلك على وجهٍ زال عنه اسم الماء بأن صار مغلوباً به فهو بمعنى الماء المقيّد‏,‏ ثمّ ينظر إن كان الّذي خالطه ممّا يخالف لونه لون الماء كاللّبن وماء العصفر والزّعفران ونحو ذلك تعتبر الغلبة في اللّون هذا إذا لم يكن الّذي خالطه ممّا يقصد منه زيادة نظافةٍ‏,‏ فإن كان ممّا يقصد منه ذلك ويطبخ به أو يخالط به كماء الصّابون والأشنان فإنّه يجوز التّوضؤُ به وإن تغيّر لون الماء‏,‏ لأنّ اسم الماء باقٍ وازداد معناه وهو التّطهير‏,‏ وكذلك جرت السنّة في غسل الميّت بالماء المغليّ بالسّدر والحُرُض - الأشنان - فيجوز الوضوء به إلا إذا صار غليظاً كالسّويق المخلوط لأنّه حينئذٍ يزول عنه اسم الماء ومعناه أيضاً‏.‏

وإن كان الطّاهر الّذي اختلط بالماء فغيّر لونه ممّا لا يمكن الاحتراز منه بأن كان لا يفارق الماء غالباً‏,‏ سواء أكان متولّداً من الماء كالطحلب‏,‏ أم كان في القرار ويجري عليه الماء كالملح والطّين والشّبّ والكبريت والقار وغير ذلك ممّا لا يمكن صون الماء عنه فإنّه يجوز التّطهر به من وضوءٍ وغسلٍ لأنّه لا يمكن صون الماء عنه‏.‏

ومثل ذلك ما إذا تغيّر لون الماء بما يسقط فيه من ورق الشّجر أو تحمله الرّيح فتلقيه فيه‏,‏ فإنّه تجوز الطّهارة به لأنّه يشق الاحتراز منه‏.‏

وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة في الأظهر والمعتمد والشّافعيّة والحنابلة في الجملة‏.‏

والأصح عند الحنفيّة تقييد جواز التّطهر بهذا الماء بحالة ما إذا لم تذهب رقّته‏,‏ إلا أنّ أحمد ابن إبراهيم الميدانيّ من الحنفيّة سئل عن الماء الّذي يتغيّر لونه لكثرة الأوراق الواقعة من الشّجر فيه حتّى يظهر لون الأوراق في الكفّ إذا رفع الماء منه هل يجوز التّوضؤُ به ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏,‏ ولكن يجوز شربه وغسل الأشياء به لأنّه طاهر‏,‏ وأمّا الوضوء فلأنّه لمّا غلب عليه لون الأوراق صار ماءً مقيّداً كماء الباقلاء‏.‏

وفي قولٍ عند المالكيّة أنّ ماء البئر إذا تغيّر لونه بورق شجرٍ أو تبنٍ ألقته الرّيح فيه غير طهورٍ فلا تجوز الطّهارة به‏.‏

والماء الآجن وهو الّذي يتغيّر بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شيءٍ يغيّره باقٍ على إطلاقه في قول أكثر أهل العلم‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ يروى‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ من بئرٍ كأنّ ماءه نقاعة الحنّاء»‏,‏ ولأنّه تغيّر من غير مخالطةٍ‏.‏

حكم إزالة لون النّجاسة

3 - إذا أصاب الثّوب أو البدن نجاسة فإنّه يجب إزالتها‏,‏ فإن كانت النّجاسة مرئّيةً ولها لون كالدّم والصّبغ المتنجّس فالحكم في إزالة لون النّجاسة ما يأتي‏:‏

ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ إزالة لون النّجاسة إن كان سهلاً ومتيسّراً وجب إزالته لأنّ بقاءه دليل على بقاء عين النّجاسة‏,‏ فإن تعسّر زوال اللّون وشقّ ذلك أو خيف تلف ثوبٍ فإنّ المحلّ يطهر بالغسل ولا يضر بقاء اللّون لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏:‏ «أنّ خولة بنت يسارٍ قالت‏:‏ يا رسول اللّه إنّه ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه ، قال‏:‏ إذا طهرت فاغسليه ثمّ صلّي فيه ، قالت‏:‏ فإن لم يخرج الدّم ‏؟‏ قال‏:‏ يكفيك غسل الدّم ولا يضرك أثره»‏.‏

أما الحنفيّة فلهم قولان في التّفريق بين ما إذا كان يعسر زوال النّجاسة أو لا يعسر زوالها والأرجح عندهم اشتراط زوال اللّون ما لم يشقّ كما عند الجمهور‏.‏

4 - ولا يجب عند جميع الفقهاء استعمال أشنانٍ ولا صابونٍ ولا تسخين ماءٍ لإزالة اللّون أو الرّيح المتعسّر إزالته‏.‏

لكن يسن ذلك عند الشّافعيّة إلا إذا تعيّن إزالة الأثر بذلك فإنّه يجب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن استعمل في زوال الأثر شيئاً يزيله كالملح وغيره فحسن‏.‏

5 - والمصبوغ بصبغ نجسٍ‏,‏ قال الحنفيّة‏:‏ يطهر بغسله ثلاثاً‏,‏ والأولى غسله إلى أن يصفو الماء‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا غسل بالماء فإنّه يطهر ولا يضر بقاء لون النّجاسة إذا تعذّر إزالتها‏.‏ وللشّافعيّة تفصيل آخر‏,‏ قالوا‏:‏ يطهر بالغسل مصبوغ بمتنجّس انفصل عنه ولم يزد المصبوغ وزناً بعد الغسل على وزنه قبل الصّبغ وإن بقي اللّون لعسر زواله‏,‏ فإن زاد وزنه لم يطهر‏,‏ وإن لم ينفصل عنه لتعقده به لم يطهر لبقاء النّجاسة فيه‏.‏

 أثر اللّون في لبس الثّياب

6 - للّون أثر في لبس الثّياب من حيث الحكم بالإباحة أو الكراهة أو التّحريم‏.‏

وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏ألبسة ف 6 وما بعدها‏)‏‏.‏

أثر تغير اللّون في الجناية

7 - اختلف الفقهاء فيما يجب بتغير اللّون في الجناية‏:‏

فقال الحنفيّة‏:‏ من جنى على سنّ شخصٍ ولم تقلع وإنّما تغيّر لونها‏,‏ فإن كان التّغير إلى السّواد أو إلى الحمرة أو إلى الخضرة ففيها الأرش تامّاً‏,‏ لأنّه ذهبت منفعتها‏,‏ وذهاب منفعة العضو بمنزلة ذهاب العضو‏,‏ وإن كان التّغير إلى الصفرة ففيها حكومة العدل‏,‏ لأنّ الصفرة لا توجب فوات المنفعة‏,‏ وإنّما توجب نقصانها فتوجب حكومة العدل‏,‏ وقال زفر في الصفرة الأرش تامّاً كما في السّواد‏,‏ لأنّ كلّ ذلك يفوّت الجمال‏.‏

وروي عن أبي يوسف أنّه إن كانت الصفرة كثيرةً حتّى تكون عيباً كعيب الحمرة والخضرة ففيها عقلها تامّاً‏,‏ قال الكاساني‏:‏ ويجب أن يكون هذا قولهم جميعاً‏,‏ ولو سقطت السّن بالجناية فنبتت مكانها سن أخرى متغيّرة بأن نبتت سوداء أو حمراء أو خضراء أو صفراء فحكمها حكم ما لو كانت قائمةً فتغيّرت بالضّربة لأنّ النّابت قام مقام الذّاهب‏,‏ فكأنّ الأولى قائمةً وتغيّرت‏.‏

والظفر إذا جنى عليه شخص فقلعه فنبت مكانه ظفر آخر‏:‏ فإن نبت أسود ففيه حكومة عدلٍ عند أبي يوسف لما أصاب من الألم بالجراحة الأولى‏.‏

ولو حلق شخص رأس رجلٍ شعره أسود فنبت الشّعر أبيض فقال أبو يوسف فيه حكومة عدلٍ‏,‏ لأنّ المقصود من الشّعر الزّينة‏,‏ والزّينة معتبرة فلا يقوم النّابت مقام الفائت‏,‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا شيء فيه‏,‏ لأنّ الشّيب ليس بعيب‏,‏ بل هو جمال وكمال فلا يجب به أرش‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن جنى على سنٍّ وكانت بيضاء فتغيّر لونها إلى السّواد ففيها خمس من الإبل وإن تغيّر لونها إلى الحمرة أو إلى الصفرة فإن كانت الحمرة أو الصفرة كالسّواد في إذهاب الجمال ففيها خمس من الإبل كالتّغير إلى السّواد وإن لم تكن الحمرة أو الصفرة كالسّواد في إذهاب الجمال ففيها بحساب ما نقص‏,‏ وفي سماع ابن القاسم‏:‏ إن اصفرّت السّن ففيها بقدر شينها لا يكمل عقلها حتّى تسودّ لا بتغيرها‏,‏ وقال أصبغ‏:‏ في اخضرارها أكثر ممّا في احمرارها وفي احمرارها أكثر ممّا في اصفرارها‏.‏

ومن أطعمت زوجها ما اسودّ به لونه فعند بعض المالكيّة عليها الدّية قياساً على ما في المدوّنة من تسويد السّنّ‏,‏ وقال بعض المالكيّة إنّ هناك فارقاً بين الأمرين‏,‏ وذلك لأنّ الشّأن في السّنّ البياض وأمّا الآدمي ففي بعض أفراده الأسود‏.‏

ومن ضرب إنساناً أو فعل به فعلاً اسودّ به جسده بعد أن كان غير أسود‏,‏ وهو نوع من البرص ففيه الدّية‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن ضرب شخص سنّ غيره فاصفرّت أو احمرّت وجبت فيها الحكومة لأنّ منافعها باقية‏,‏ وإنّما نقص بعض جمالها‏,‏ فوجب فيها الحكومة‏,‏ فإن ضربها فاسودّت فقد قالوا في موضعٍ‏:‏ تجب فيها الحكومة‏,‏ وقالوا في موضعٍ آخر‏:‏ تجب الدّية‏,‏ وليست على قولين وإنّما هي على اختلاف حالين‏,‏ فالّذي قال تجب فيها الدّية إذا ذهبت المنفعة‏,‏ والّذي قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة‏.‏

وذكر المزني أنّها على قولين‏,‏ واختار أنّه يجب فيها الحكومة‏,‏ والصّحيح هو الطّريق الأوّل‏.‏

وإن قلع شخص سنّ غيره فنبت مكانها سن صفراء أو خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال‏,‏ وإن لطم رجلاً أو لكمه أو ضربه بمثقّل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لأنّه لم يحصل به نقص في جمالٍ ولا منفعة فلم يلزمه أرش‏,‏ وإن حصل به شين بأن اسودّ أو اخضرّ وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشّين‏,‏ فإن قضى فيه بالحكومة ثمّ زال الشّين سقطت الحكومة كما لو جنى على عينٍ فابيضّت ثمّ زال البياض‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ من اعتدى على غيره فقلع ظفره فعاد أسود ففيه خمس دية الأصبع نصاً عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ذكره ابن المنذر ولم يعرف له مخالف من الصّحابة‏.‏

وقال البهوتي‏:‏ في تسويد سنٍّ وظفرٍ وتسويد أنفٍ وتسويد أذنٍ بحيث لا يزول التّسويد دية ذلك العضو كاملةً لإذهاب جماله‏.‏

لكن ابن قدامة فصّل في تسويد السّنّ فقال‏:‏ حكي عن أحمد روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ تجب ديتها كاملةً وهو ظاهر كلام الخرقيّ ويروى هذا عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه‏,‏ وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنّخعيّ وعبد العزيز بن أبي سلمة واللّيث والثّوري‏,‏ لأنّه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها‏.‏

والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها‏,‏ وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهو قول القاضي‏.‏

أما إن اصفرّت السّن أو احمرّت لم تكتمل ديتها‏,‏ لأنّه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة‏,‏ وإن اخضرّت احتمل أن يكون كتسويدها لأنّه يذهب بجمالها‏,‏ واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة‏,‏ لأنّ ذهاب جمالها بتسويدها أكثر فلم يلحق به غيره كما لو حمّرها‏.‏

وقال البهوتي‏:‏ من جنى على سنٍّ صغيرٍ فقلعه ولم يعد‏,‏ أو عاد أسود واستمرّ أسود‏,‏ أو عاد أبيض ثمّ اسودّ بلا علّةٍ ففيها خمس من الإبل‏,‏ روي ذلك عن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم‏,‏ وإن عاد السّن أبيض ثمّ اسودّ لعلّة ففيها حكومة لأنّها أرش كلّ ما لا مقدّر فيه‏.‏ ومن ضرب وجه إنسانٍ فاسودّ الوجه ولم يزل سواده ففيه الدّية كاملةً‏,‏ لأنّه فوّت الجمال على الكمال فضمنه بديته كقطع أذن الأصمّ‏,‏ وإن زال السّواد يرد ما أخذه لزوال سبب الضّمان‏,‏ وإن زال بعضه وجبت فيه حكومة وردّ الباقي‏.‏

وإن صار الوجه أحمر أو أصفر ففيه حكومة كما لو سوّد بعضه‏,‏ لأنّه لم يذهب الجمال على الكمال‏.‏

أثر اللّون في ضمان المغصوب

تلوين الغاصب المغصوب بلون من عنده

1 - لو غيّر الغاصب المغصوب فلوّنه بلون غير لونه الأصليّ فللفقهاء في ذلك تفصيل بيانه ما يلي‏:‏

ذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ من غصب من إنسانٍ ثوباً فصبغه الغاصب بصبغ نفسه بأيّ لونٍ كان‏,‏ أسود أو أحمر أو أصفر بالعصفر والزّعفران وغيرهما من الألوان فصاحب الثّوب بالخيار إن شاء أخذ الثّوب من الغاصب‏,‏ لأنّ الثّوب ملكه لبقاء اسمه ومعناه‏,‏ ولكنّه يضمن ما زاد الصّبغ فيه فيعطيه للغاصب‏,‏ لأنّ للغاصب عين مالٍ متقوّمٍ قائمٍ فلا سبيل إلى إبطال ملكه عليه من غير ضمانٍ فكان الأخذ بضمانه رعايةً للجانبين‏.‏

وإن شاء المغصوب منه ترك الثّوب على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب لأنّه لا سبيل إلى جبره على أخذ الثّوب‏,‏ إذ لا يمكنه أخذه إلا بضمان‏,‏ وهو قيمة ما زاد الصّبغ فيه‏,‏ ولا سبيل إلى جبره على الضّمان لانعدام مباشرة سبب وجوب الضّمان منه‏.‏

وإن نقصت قيمة الثّوب بصبغه فيخيّر ربه في أخذه مع أرش نقصه‏,‏ أو أخذ قيمة الثّوب يوم غصبه‏.‏

وفرّق أبو حنيفة في الألوان‏,‏ فوافق أبا يوسف ومحمّداً فيما لو كان الغاصب صبغه أحمر أو أصفر أما لو صبغه أسود فقال أبو حنيفة‏:‏ صاحب الثّوب بالخيار إن شاء تركه على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض‏,‏ وإن شاء أخذ الثّوب ويضمن الغاصب النقصان‏,‏ وهذا بناءً على أنّ السّواد نقصان عند أبي حنيفة‏.‏

وللحنفيّة قول آخر‏,‏ قيل‏:‏ إنّ لصاحب الثّوب خياراً ثالثاً وهو أنّ له ترك الثّوب على حاله وكان الصّبغ فيه للغاصب فيباع الثّوب ويقسم الثّمن على قدر حقّهما‏,‏ لأنّ التّمييز متعذّر فصارا شريكين‏.‏

وقال الحنفيّة أيضاً‏:‏ لو غصب عصفراً وثوباً من رجلٍ واحدٍ فصبغه أي الثّوب به فالمغصوب منه يأخذ الثّوب مصبوغاً ويبرئ الغاصب من الضّمان في العصفر والثّوب استحساناً‏,‏ لأنّ المغصوب منه واحد‏,‏ ولأنّ خلط مال الإنسان بماله لا يعد استهلاكاً له بل يكون نقصاناً‏,‏ فإذا اختار أخذ الثّوب فقد أبرأه عن النقصان‏,‏ والقياس أن يضمن الغاصب عصفراً مثله‏,‏ ثمّ يصير كأنّه صبغ ثوبه بعصفر نفسه‏,‏ فيثبت الخيار لصاحب الثّوب‏.‏ وقالوا كذلك‏:‏ لو غصب من إنسانٍ ثوباً ومن إنسانٍ صبغاً فصبغه به‏:‏ فإنّ الغاصب يضمن لصاحب الصّبغ صبغاً مثل صبغه‏,‏ ويصبح مالكاً للصّبغ بالضّمان‏,‏ وصاحب الثّوب بعد ذلك بالخيار إن شاء أخذ الثّوب من الغاصب وأعطاه ما زاد الصّبغ فيه وإن شاء ترك الثّوب على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب‏,‏ وقيل يباع الثّوب ويقسم الثّمن على قدر حقّهما‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو صبغ الغاصب الثّوب بصبغه وأمكن فصله منه بأن لم ينعقد الصّبغ به أجبر على الفصل وإن خسر كثيراً أو نقصت قيمة الصّبغ بالفصل في الأصحّ كالبناء والغراس‏,‏ وله الفصل قهراً على المالك وإن نقص الثّوب به لأنّه يغرم أرش النّقص فإن لم يحصل به نقص فكالتّزويق فلا يستقل الغاصب بفصله ولا يجبره المالك عليه‏,‏ ومقابل الأصحّ لا‏,‏ لما فيه من ضرر الغاصب لأنّه يضيع بفصله‏.‏

وخرج بصبغه صبغ المالك فالزّيادة كلها له والنّقص على الغاصب‏,‏ ويمتنع فصله بغير إذن المالك وله إجباره عليه مع أرش النّقص‏,‏ وصبغ مغصوبٍ من آخر فلكلّ من مالكي الثّوب والصّبغ تكليفه فصلاً أمكن مع أرش النّقص‏,‏ فإن لم يمكن فهما في الزّيادة والنّقص كما في قوله‏.‏

وإن لم يمكن فصله لتعقده فإن لم تزد قيمته ولم تنقص بأن كان يساوي عشرةً قبله وساواها بعده مع أنّ الصّبغ قيمته خمسة لا لانخفاض سوق الثّياب بل لأجل الصّبغ فلا شيء للغاصب فيه ولا عليه‏,‏ إذ غصبه كالمعدوم حينئذٍ وإن نقصت قيمته بأن صار يساوي خمسةً لزمه الأرش لحصول النّقص بفعله‏,‏ وإن زادت قيمته بسبب العمل والصّبغ اشتركا في الثّوب هذا بصبغه وهذا بثوبه أثلاثاً‏,‏ ثلثاه للمغصوب منه وثلث للغاصب‏,‏ أما إذا زاد سعر أحدهما فقط بارتفاعه فالزّيادة لصاحبه‏,‏ وإن نقص عن الخمسة عشر قيمتها كأن ساوى اثني عشر‏,‏ فإن كان النّقص بسبب انخفاض سعر الثّياب فهو على الثّوب‏,‏ أو سعر الصّبغ أو بسبب الصّنعة فعلى الصّبغ‏,‏ قاله في الشّامل والتّتمّة‏,‏ وبهذا أي اختصاص الزّيادة عن ارتفاع سعر ملكه يعلم أنّه ليس معنى اشتراكهما كونه على وجه الشيوع بل هذا بثوبه وهذا بصبغه‏.‏

ولو بذل صاحب الثّوب للغاصب قيمة الصّبغ ليتملّكه لم يجب إليه أمكن فصله أم لا‏,‏ ولو أراد أحدهما الانفراد ببيع ملكه لثالث لم يصحّ‏,‏ إذ لا ينتفع به وحده كبيع دارٍ لا ممرّ لها‏,‏ نعم لو أراد المالك بيع الثّوب لزم الغاصب بيع صبغه معه لأنّه متعدٍّ فليس له أن يضرّ بالمالك‏,‏ بخلاف ما لو أراد الغاصب بيع صبغه لا يلزم مالك الثّوب بيعه معه لئلا يستحقّ المتعدّي بتعدّيه إزالة ملك غيره‏.‏

ولو طيّرت الرّيح ثوباً إلى مصبغة آخر فانصبغ فيها اشتركا في المصبوغ ولم يكلّف أحدهما البيع ولا الفصل ولا الأرش وإن حصل نقص إذ لا تعدّي‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن غصب ثوباً فصبغه الغاصب بصبغه فنقصت قيمة الثّوب والصّبغ أو نقص قيمة أحدهما ضمن الغاصب النّقص لأنّه حصل بتعدّيه فضمنه‏,‏ كما لو أتلف بعضه‏,‏ وإن كان النّقص بسبب تغير الأسعار لم يضمنه‏,‏ وإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد أو زادت قيمتهما فهما أي رب الثّوب والصّبغ شريكان في الثّوب وصبغه بقدر ملكيهما‏,‏ فيباع ذلك ويوزّع الثّمن على قدر القيمتين‏,‏ وإن زادت قيمة أحدهما من ثوبٍ أو صبغٍ فالزّيادة لصاحبه يختص بها‏,‏ لأنّ الزّيادة تبع للأصل‏,‏ هذا إذا كانت الزّيادة لغلوّ سعرٍ‏,‏ فإن حصلت الزّيادة بالعمل فهي بينهما‏,‏ لأنّ ما عمله الغاصب في العين المغصوبة لمالكها حيث كان أثراً‏,‏ وزيادة مال الغاصب له‏,‏ وإن أراد مالك الثّوب أو الغاصب قلع الصّبغ من الثّوب لم يجبر الآخر عليه‏,‏ لأنّ فيه إتلافاً لملكه‏,‏ وإن أراد مالك الثّوب بيع الثّوب فله ذلك لأنّه ملكه وهو عين‏,‏ وصبغه باقٍ للغاصب‏,‏ ولو أبى الغاصب بيع الثّوب فلا يمنع منه مالكه‏,‏ لأنّه لا حجر له عليه في ملكه‏,‏ وإن أراد الغاصب بيع الثّوب المصبوغ لم يجبر المالك لحديث‏:‏ «إنّما البيع عن تراضٍ»‏,‏ وإن بذل الغاصب لربّ الثّوب قيمته ليملكه‏,‏ أو بذل رب الثّوب قيمة الصّبغ للغاصب ليملكه‏,‏ لم يجبر الآخر لأنّها معاوضة لا تجوز إلا بتراضيهما‏.‏

وصحّح الحارثي أنّ لمالك الثّوب تملك الصّبغ بقيمته‏,‏ ليتخلّص من الضّرر‏.‏

وإن وهب الغاصب الصّبغ لمالك الثّوب لزم المالك قبوله لأنّه صار من صفات العين‏,‏ فهو كزيادة الصّفة في المسلم فيه‏.‏

وإن غصب صبغاً فصبغ به الغاصب ثوبه فهما شريكان بقدر حقّيهما في ذلك فيباع ويوزّع الثّمن على قدر الحقّين‏,‏ لأنّه بذلك يصل كل منهما لحقّه‏,‏ ويضمن الغاصب النّقص إن وجد لحصوله بفعله‏,‏ ولا شيء له إن زاد المغصوب في نظير عمله لتبرعه به‏.‏

وإن غصب ثوباً وصبغاً من واحدٍ فصبغه به ردّه الغاصب وردّ أرش نقصه إن نقص لتعدّيه به ولا شيء له في زيادته بعمله فيه‏,‏ لأنّه متبرّع به‏,‏ وإن كان من اثنين اشتركا في الأصل والزّيادة بالقيمة‏,‏ وما نقص من أحدهما غرمه الغاصب‏,‏ وإن نقص السّعر لنقص سعر الثّياب أو الصّبغ أو لنقص سعرهما لم يضمنه الغاصب‏,‏ ونقص كلّ واحدٍ منها من صاحبه‏,‏ وإن أراد أحدهما قلع الصّبغ لم يجبر الآخر‏.‏

أثر اختلاف اللّون في ضمان الأجير

9 - ذكر الحنفيّة أنّ من دفع ثوباً إلى صبّاغٍ ليصبغه لوناً معيّناً فصبغه لوناً آخر فصاحب الثّوب بالخيار‏:‏ إن شاء ضمّنه قيمة ثوبٍ أبيض وسلّم الثّوب للأجير وذلك لفوات غرضه‏,‏ لأنّ الأغراض تختلف باختلاف الألوان‏,‏ فله أن يضمّنه قيمة ثوبٍ أبيض لتفويته عليه منفعةً مقصودةً‏,‏ فصار متلفاً الثّوب عليه فكان له أن يضمّنه‏,‏ وإن شاء أخذ الثّوب وأعطى الأجير ما زاد الصّبغ فيه‏,‏ لأنّ الضّمان وجب حقاً له فله أن يسقط حقّه‏,‏ ولا أجر للصّبّاغ‏,‏ لأنّه لم يأت بما وقع عليه العقد رأساً حيث لم يوفّ العمل المأذون فيه أصلاً فلا يستحق الأجر‏,‏ ويعطيه ما زاد الصّبغ فيه إن كان الصّبغ ممّا يزيد كالحمرة والصفرة ونحوهما‏,‏ لأنّه عين مالٍ قائمٍ بالثّوب فلا سبيل إلى أخذه مجّاناً بلا عوضٍ‏,‏ فيأخذه ويعطيه ما زاد الصّبغ فيه رعايةً للحقّين ونظراً من الجانبين‏.‏

وإن كان الصّبغ ممّا لا يزيد كالسّواد فعند أبي يوسف ومحمّدٍ له قيمة وحكمه حكم سائر الألوان‏,‏ وعند أبي حنيفة السّواد لا قيمة له عنده فلا يزيد بل ينقص‏,‏ وعلى هذا الأساس لو اختار صاحب الثّوب أخذه لا يعطيه شيئاً نظير الصّبغ بل يضمّنه نقصان الثّوب عند أبي حنيفة‏.‏

وإذا أمر رجلاً أن يحمّر له بيتاً فخضّره قال محمّد‏:‏ أعطيه ما زادت الخضرة فيه ولا أجرة له‏,‏ لأنّه لم يعمل ما استأجره عليه رأساً فلا يستحق الأجرة‏,‏ ولكن يستحق قيمة الصّبغ الّذي زاد في البيت‏.‏

وإن دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه بصبغ مسمّىً فصبغ بصبغ آخر لكنّه من جنس ذلك اللّون فصاحب الثّوب مخيّر بين أن يضمّنه قيمته أبيض ويسلّم إليه الثّوب وإن شاء أخذ الثّوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به ما سمّى‏,‏ وإنّما وجب الأجر هنا في هذه المسألة خلافاً لما سبق‏,‏ لأنّ الخلاف في الصّفة لا يخرج العمل من أن يكون معقوداً عليه فقد أتى بأصل المعقود عليه إلا أنّه لم يأت بوصفه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ من دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه فصبغه لكن صاحب الثّوب ادّعى أنّه طلب صبغه بلون آخر وقال الصّبّاغ‏:‏ إنّه اللّون الّذي طلبه منه صاحب الثّوب فالقول قول الصّبّاغ إن كان اللّون الّذي صبغه به يشبه ما يناسب مالك الثّوب في استعماله‏.‏

وكل هذا ما لم تقم قرينة قويّة تؤيّد قول المالك‏.‏

وإن كان قول الصّبّاغ لم يشبه ما يناسب مالك الثّوب في استعماله فإنّ ربّ الثّوب يحلف ويثبت له الخيار في أخذه ودفع أجرة المثل أو تركه وأخذ قيمته غير مصبوغٍ‏,‏ فإن نكل رب الثّوب اشتركا هذا بقيمة ثوبه غير مصبوغٍ وهذا بقيمة صبغه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه أحمر فصبغه أخضر‏,‏ فقال‏:‏ أمرتك أن تصبغه أحمر فقال الصّبّاغ‏:‏ بل أمرتني أن أصبغه أخضر فإنّهما يتحالفان‏,‏ قال أبو إسحاق الشّيرازي‏:‏ واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرقٍ‏:‏

فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوالٍ‏:‏

أحدها‏:‏ أنّ القول قول الصّبّاغ‏.‏

والثّاني‏:‏ القول قول ربّ الثّوب‏.‏

والثّالث‏:‏ أنّهما يتحالفان‏.‏

ومن أصحابنا من قال‏:‏ المسألة على القولين الأوّلين فقط‏.‏

ومن أصحابنا من قال‏:‏ المسألة على قولٍ واحدٍ وهو أنّهما يتحالفان‏,‏ قال الشّيرازي‏:‏ وهو الصّحيح لأنّ كلّ واحدٍ منهما مدّعٍ ومدّعى عليه‏,‏ وإذا تحالفا لم تجب الأجرة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا اختلف صاحب الثّوب والصّبّاغ في لون الصّبغ فقال الصّبّاغ‏:‏ أذنت لي في صبغه أسود‏,‏ وقال رب الثّوب بل أحمر‏,‏ فالقول قول الصّبّاغ وله أجرة مثله‏.‏

ليلة القدر

التّعريف

1 - ليلة القدر تتركّب من لفظين‏:‏ أوّلهما‏:‏ ليلة وهي في اللغة‏:‏ من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر‏,‏ ويقابلها النّهار‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي له عن المعنى اللغويّ‏.‏

وثانيهما‏:‏ القدر‏,‏ ومن معاني القدر في اللغة‏:‏ الشّرف والوقار‏,‏ ومن معانيه‏:‏ الحكم والقضاء والتّضييق‏.‏

واختلف الفقهاء في المراد من القدر الّذي أضيفت إليه اللّيلة فقيل‏:‏ المراد به التّعظيم والتّشريف‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏‏,‏ والمعنى‏:‏ أنّها ليلة ذات قدرٍ وشرفٍ لنزول القرآن فيها‏,‏ ولما يقع فيها من تنزل الملائكة‏,‏ أو لما ينزل فيها من البركة والرّحمة والمغفرة‏,‏ أو أنّ الّذي يحييها يصير ذا قدرٍ وشرفٍ‏.‏

وقيل‏:‏ معنى القدر هنا التّضييق كمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ‏}‏ ومعنى التّضييق فيها إخفاؤُها عن العلم بتعيينها‏,‏ أو لأنّ الأرض تضيق فيها عن الملائكة‏,‏ وقيل‏:‏ القدر هنا بمعنى القدَر - بفتح الدّال - وهو مؤاخي القضاء‏:‏ أي بمعنى الحكم والفصل والقضاء‏,‏ قال العلماء‏:‏ سمّيت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأرزاق والآجال وغير ذلك ممّا سيقع في هذه السّنة بأمر من اللّه سبحانه لهم بذلك‏,‏ وذلك ما يدل عليه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏‏,‏ حيث ذهب جمهور العلماء إلى أنّ اللّيلة المباركة الواردة في هذه الآية هي ليلة القدر‏,‏ وليست ليلة النّصف من شعبان كما ذهب إليه بعض المفسّرين‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ليلة القدر هي ليلة شريفة مباركة معظّمة مفضّلة ثمّ قال‏:‏ وقيل‏:‏ إنّما سمّيت ليلة القدر لأنّه يقدّر فيها ما يكون في تلك السّنة من خيرٍ ومصيبةٍ‏,‏ ورزقٍ وبركةٍ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بليلة القدر

فضل ليلة القدر

2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر أفضل اللّيالي‏,‏ وأنّ العمل الصّالح فيها خير من العمل الصّالح في ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏‏,‏ وأنّها اللّيلة المباركة الّتي يفرق فيها كل أمرٍ حكيمٍ‏,‏ والّتي ورد ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏‏.‏

وورد في فضلها أيضاً بالإضافة إلى ما سبق قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَََلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‏}‏‏,‏ قال القرطبي‏:‏ أي تهبط من كلّ سماءٍ ومن سدرة المنتهى فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء النّاس إلى وقت طلوع الفجر‏,‏ وتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالرّحمة بأمر اللّه تعالى وبكلّ أمرٍ قدّره اللّه وقضاه في تلك السّنة إلى قابلٍ‏.‏

وفي فضل ليلة القدر أيضاً قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏سَََلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ أي أنّ ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شرّ فيها إلى طلوع الفجر‏,‏ قال الضّحّاك‏:‏ لا يقدّر اللّه في تلك اللّيلة إلا السّلامة وفي سائر اللّيالي يقضي بالبلايا والسّلامة‏,‏ وقال مجاهد‏:‏ هي ليلة سالمة لا يستطيع الشّيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذىً‏.‏

إحياء ليلة القدر

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء ليلة القدر لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو سعيدٍ الخدري رضي الله تعالى عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاور في العشر الأواخر من رمضان»‏,‏ ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كان إذا دخل العشر أحيا اللّيل وأيقظ أهله وشدّ المئزر»‏,‏ والقصد منه إحياء ليلة القدر ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه»‏.‏

ويكون إحياء ليلة القدر بالصّلاة وقراءة القرآن والذّكر والدعاء‏,‏ وغير ذلك من الأعمال الصّالحة‏,‏ وأن يكثر من دعاء‏:‏ اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنّي‏,‏ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «قلت‏:‏ يا رسول اللّه أرأيت إن علمت أيّ ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها ‏؟‏ قال‏:‏ قولي اللّهمّ إنّك عفوٌّ كريم تحب العفو فاعف عنّي»‏,‏ قال ابن علان‏:‏ بعد ذكر هذا الحديث‏:‏ فيه إيماء إلى أنّ أهمّ المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب‏,‏ فإنّ بالطّهارة من ذلك يتأهّل للانتظام في سلك حزب اللّه وحزب اللّه هم المفلحون‏.‏

اختصاص الأمّة المحمّديّة بليلة القدر

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر خاصّة بالأمّة المحمّديّة ولم تكن في الأمم السّابقة‏,‏ واستدلوا بما روي عن مالك بن أنسٍ‏:‏ أنّه سمع من يثق به من أهل العلم يقول‏:‏ «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أري أعمار النّاس قبله ، أو ما شاء اللّه من ذلك ، فكأنّه تقاصر أعمار أمّته أن لا يبلغوا من العمل مثل الّذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه اللّه ليلة القدر خير من ألف شهرٍ»‏.‏

وبما روي‏:‏ «أنّ رجلاً من بني إسرائيل لبس السّلاح في سبيل اللّه تعالى ألف شهرٍ فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏»‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنّ ليلة القدر كانت في الأمم السّابقة واحتجوا بحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه وفيه‏:‏ «قلت يا رسول اللّه أخبرني عن ليلة القدر أفي كلّ رمضان هي ‏؟‏ قال‏:‏ نعم ، قلت أفتكون مع الأنبياء فإذا رفعوا رفعت أو إلى يوم القيامة ‏؟‏ قال‏:‏ بل هي إلى يوم القيامة»‏.‏

بقاء ليلة القدر

5 - اختلف العلماء في بقاء ليلة القدر‏:‏

فذهب الجمهور إلى أنّ ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة لحديث أبي ذرٍّ في المسألة السّابقة وللأحاديث الكثيرة الّتي تحث المسلم على طلبها والاجتهاد في إدراكها‏,‏ ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه»‏,‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»‏.‏

وذهب بعض العلماء إلى أنّ ليلة القدر رفعت أصلاً ورأساً‏,‏ قال ابن حجرٍ‏:‏ حكاه المتولّي في التّتمّة عن الرّوافض والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفيّة وكأنّه خطأ‏,‏ والّذي حكاه السروجي أنّه قول الشّيعة‏.‏

وقد روى عبد الرّزّاق عن عبد اللّه بن يحنس قلت لأبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ زعموا أنّ ليلة القدر رفعت ، قال‏:‏ كذب من قال ذلك‏,‏ وعن عبد اللّه بن شريكٍ قال‏:‏ ذكر الحجّاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها فأراد زر بن حبيشٍ أن يحصبه فمنعه قومه‏.‏

محل ليلة القدر

6 - اختلف الفقهاء في محلّ ليلة القدر‏:‏

فذهب جمهورهم وهو المذهب عند الحنفيّة إلى أنّ محلّ ليلة القدر في رمضان دائرة معه‏,‏ لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أخبر أنّه أنزل القرآن في ليلة القدر بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏‏.‏

وأخبرنا كذلك أنّه أنزل القرآن في شهر رمضان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ‏}‏‏,‏ الآية‏,‏ ممّا يدل على أنّ ليلة القدر منحصرة في شهر رمضان دون سائر ليالي السّنة الأخرى‏.‏

كما استدلوا بالأحاديث الصّحيحة والّتي سبق نقلها وهي تدل على أنّ محلّ ليلة القدر في شهر رمضان‏.‏

وذهب بعض العلماء ومنهم عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه وأبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنّ محلّ ليلة القدر في جميع السّنة تدور فيها‏,‏ قد تكون في رمضان وقد تكون في غير رمضان فقد روي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنّه كان يقول‏:‏ ‏"‏ من يقم الحول يصب ليلة القدر ‏"‏ مشيراً إلى أنّها في السّنة كلّها‏,‏ ولمّا بلغ قوله هذا إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن أما إنّه علم أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان ولكنّه أراد ألا يتّكل النّاس‏.‏

7 - واختلف جمهور الفقهاء الّذين ذهبوا إلى أنّ ليلة القدر في شهر رمضان في محلّها من الشّهر وذلك بعدما قالوا‏:‏ يستحب طلب ليلة القدر في جميع ليالي رمضان وفي العشر الأواخر آكد‏,‏ وليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان آكد‏,‏ للأحاديث السّابقة‏.‏

وفيما يلي أقوال العلماء في محلّها‏:‏

القول الأوّل‏:‏ الصّحيح المشهور لدى جمهور الفقهاء‏,‏ وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏,‏ والأوزاعي وأبو ثورٍ‏:‏ أنّها في العشر الأواخر من رمضان لكثرة الأحاديث الّتي وردت في التماسها في العشر الأواخر من رمضان‏,‏ وتؤكّد أنّها في الأوتار ومنحصرة فيها‏.‏

والأشهر والأظهر عند المالكيّة أنّها ليلة السّابع والعشرين‏.‏

وبهذا يقول الحنابلة‏,‏ فقد صرّح البهوتي بأنّ أرجاها ليلة سبعٍ وعشرين نصاً‏.‏

القول الثّاني‏:‏ قال ابن عابدين‏:‏ ليلة القدر دائرة مع رمضان‏,‏ بمعنى أنّها توجد كلّما وجد‏,‏ فهي مختصّة به عند الإمام وصاحبيه‏,‏ لكنّها عندهما في ليلةٍ معيّنةٍ منه‏,‏ وعنده لا تتعيّن‏.‏ وقال الطّحطاوي‏:‏ ذهب الأكثر إلى أنّ ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين‏,‏ وهو قول ابن عبّاسٍ وجماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم‏,‏ ونسبه العيني في شرح البخاريّ إلى الصّاحبين‏.‏ القول الثّالث‏:‏ قال النّووي‏:‏ مذهب الشّافعيّة وجمهور أصحابنا أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا‏,‏ ولكنّها في ليلةٍ معيّنةٍ في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال من تلك اللّيلة إلى يوم القيامة‏,‏ وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها‏,‏ لكن ليالي الوتر أرجاها‏,‏ وأرجى الوتر عند الشّافعيّ ليلة الحادي والعشرين‏,‏ وقال الشّافعي في موضعٍ إلى ثلاثةٍ وعشرين‏,‏ وقال البندنيجي‏:‏ مذهب الشّافعيّ أنّ أرجاها ليلة إحدى وعشرين‏,‏ وقال في القديم‏:‏ ليلة إحدى وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين فهما أرجى لياليها عنده‏,‏ وبعدهما ليلة سبعٍ وعشرين‏.‏

هذا هو المشهور في المذهب أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان‏.‏

وقال الشّربيني الخطيب‏:‏‏.‏‏.‏ وقال ابن عبّاسٍ وأبيّ رضي الله عنهم‏:‏ هي ليلة سبعٍ وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم‏.‏

القول الرّابع‏:‏ أنّها أوّل ليلةٍ من رمضان‏,‏ وهو قول أبي رزينٍ العقيليّ الصّحابيّ لقول أنسٍ رضي الله عنه‏:‏ ليلة القدر أوّل ليلةٍ من رمضان‏,‏ نقلها عنهما ابن حجرٍ‏.‏

القول الخامس‏:‏ أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان‏,‏ روى ابن أبي شيبة والطّبراني من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال‏:‏ ما أشك ولا أمتري أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن‏,‏ وروي ذلك عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه بحجّة أنّها هي اللّيلة الّتي كانت في صبيحتها وقعة بدرٍ ونزل فيها القرآن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ‏}‏‏,‏ وهو ما يتوافق تماماً مع قوله تعالى في ليلة القدر‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏‏.‏

القول السّادس‏:‏ أنّها مبهمة في العشر الأوسط‏,‏ حكاه النّووي وقال به بعض الشّافعيّة وهو قول للمالكيّة وعزاه الطّبريّ إلى عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه والحسن البصريّ‏.‏ القول السّابع‏:‏ أنّها ليلة تسع عشرة‏,‏ قال ابن حجرٍ‏:‏ رواه عبد الرّزّاق عن عليٍّ رضي الله عنه وعزاه الطّبريّ لزيد بن ثابتٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما ووصله الطّحاوي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه‏.‏

القول الثّامن‏:‏ أنّها متنقّلة في ليالي العشر الأواخر تنتقل في بعض السّنين إلى ليلةٍ وفي بعضها إلى غيرها‏,‏ وذلك جمعاً بين الأحاديث الّتي وردت في تحديدها في ليالٍ مختلفةٍ من شهر رمضان عامّةً ومن العشر الأواخر خاصّةً‏,‏ لأنّه لا طريق إلى الجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنّها متنقّلة‏,‏ وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل‏,‏ فعلى هذا كانت في السّنة الّتي رأى أبو سعيدٍ رضي الله عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطّين ليلة إحدى وعشرين‏,‏ وفي السّنة الّتي أمر عبد اللّه ابن أنيسٍ بأن ينزل من البادية ليصلّي في المسجد ليلة ثلاثٍ وعشرين‏,‏ وفي السّنة الّتي رأى أبي بن كعبٍ رضي الله عنه علامتها ليلة سبعٍ وعشرين‏,‏ وقد ترى علامتها في غير هذه اللّيالي‏,‏ وهذا قول مالكٍ وأحمد والثّوريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وأبي قلابة والمزنيّ وصاحبه أبي بكرٍ محمّد ابن إسحاق بن خزيمة والماورديّ وابن حجرٍ العسقلانيّ من الشّافعيّة‏,‏ وقال النّووي‏:‏ وهذا هو الظّاهر المختار‏,‏ لتعارض الأحاديث الصّحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها‏,‏ وقيل‏:‏ إنّ ليلة القدر متنقّلة في شهر رمضان كلّه‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ أبهم اللّه تعالى هذه اللّيلة على الأمّة ليجتهدوا في طلبها‏,‏ ويجدوا في العبادة طمعاً في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كلّه‏,‏ وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء‏,‏ ورضاه في الطّاعات ليجتهدوا في جميعها‏,‏ وأخفى الأجل وقيام السّاعة ليجدّ النّاس في العمل حذراً منهما‏.‏

ما يشترط لنيل فضل ليلة القدر

8 - نصّ فقهاء المالكيّة والشّافعيّة على مسألة اشتراط العلم بليلة القدر لنيل فضلها أو عدم اشتراطه واختلفوا في ذلك‏:‏

فذهب بعض المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا ينال فضل ليلة القدر إلا من أطلعه اللّه عليها‏,‏ فلو قام إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها‏.‏

وقال آخرون من فقهاء المذهبين‏:‏ إنّه لا يشترط لنيل فضل ليلة القدر العلم بها‏,‏ ويستحب التّعبد في كلّ ليالي العشر الأواخر من رمضان حتّى يحوز الفضيلة على اليقين‏.‏

ورجّح فقهاء المذهبين الرّأي الثّاني وقالوا‏:‏ ومع ذلك فإنّ حال من اطّلع على ليلة القدر أكمل وأتم في الفضل إذا قام بوظائفها‏.‏

علامات ليلة القدر

9 - قال العلماء‏:‏ لليلة القدر علامات يراها من شاء اللّه من عباده في كلّ سنةٍ من رمضان‏,‏ لأنّ الأحاديث وأخبار الصّالحين ورواياتهم تظاهرت عليها‏:‏

فمنها ما ورد من حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه مرفوعاً‏:‏ «إنّها صافية بلجة كأنّ فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حرّ ولا يحل لكوكب أن يُرمى به فيها حتّى تصبح وأنّ من أمارتها أنّ الشّمس صبيحتها تخرج مستويةً ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشّيطان أن يخرج معها يومئذٍ»‏.‏

وعن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الشّمس تطلع يومئذٍ لا شعاع لها»‏.‏

ومنها ما ورد من قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه‏:‏ أنّ الشّمس تطلع كلّ يومٍ بين قرني شيطانٍ إلا صبيحة ليلة القدر‏.‏

كتمان ليلة القدر

10 - اتّفق العلماء على أنّه يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها‏.‏

والحكمة في كتمانها كما ذكرها ابن حجرٍ نقلاً عن الحاوي أنّها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلافٍ بين أهل الطّريق من جهة رؤية النّفس‏,‏ فلا يأمن السّلب‏,‏ ومن جهةٍ أن لا يأمن الرّياء‏,‏ ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر للّه بالنّظر إليها وذكرها للنّاس‏,‏ ومن جهةٍ أنّه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور‏.‏

قال ابن حجرٍ العسقلاني‏:‏ ويستأنس له بقول يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لابنه يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

الموسوعة الفقهية / نهاية الجزء الخامس والثلاثين